الجدران الثقافية
وقفت أمام بقايا جدار برلين وأنا أتأمل في الرسومات التي رسمت لتعبّر عن مرحلة اندحرت، وأخذت استعيد الذكريات عندما كان الناس من الجانبين، الشرقي والغربي، يضربون بالمطارق الجدار الذي عزل بينهم بعد الحرب العالمية الثانية، وكنا نردد أن العالم دخل مرحلة جديدة تتوجه فيها الأنظار إلى قضايا مثل الفقر وعزلة الجنوب عن الشمال، وإذا بنا نبني جدراناً أشد صلابة من بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. كان جدار برلين بمفردة يجسد لنا الانقسام، لكن وجدنا اليوم أنفسنا أمام أكثر من جدار بعد ما أقيم جدار «طالبان» وأُضيف إليه جدار العزل بين الثقافات الذي دب في مشاعرنا نتيجة للخوف والهلع الذي أشعلته فتن «القاعدة» والجماعات الراديكالية الدينية من مختلف الثقافات.
تعلّمت أوروبا في طريقها للديمقراطية أن الحرب لا تولد إلا الحروب والدمار، وأنها تباعد بين ثقافات البشر، وجاءت فرنسا بمبادرة اتفاقية التنوع الثقافي التي تبنتها «اليونيسكو» باعتبارها وسيلة تقارب تعزز الاحترام بين الشعوب كي يعم السلام الذي ينشده العالم... إلا أن حقائق الواقع تقول خلاف ذلك.
فالركائز العالمية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية بقيت كما هي، وإن سقط جدار برلين، واشتعلت حروب أهلية في العراق وباكستان وأفغانستان وسوريا ولبنان والحبل على الجرار. فالعالم انشغل بالتسلح المخيف ودخلنا مرحلة من الحروب الجديدة تنهك طاقة الدول والمجتمعات. فإيران انشغلت بمفاعلاتها النووية ولم تتجه لنشر المعرفة وبث قيم السلام العالمي، وتعمقت الفجوات وخرجت لنا صيحات الشباب العربي ليلعن الديكتاتوريات التي وعدت وانكشفت حقيقة وعودها التي جاءت بها، سواء حركات اليسار العربي أو الإسلام السياسي الذي ظهرت بشاعته على يد أكبر تنظيم فيه، حيث جاء «الإخوان» وضربوا مصر وكانوا يسعون لتدمير كل ما تبقى لنا من حلم العروبة.
وفجأة يتحول كل شيء في سوريا إلى الرفض، لتفتح أبوابها لتدمير أسلحتها الكيماوية التي قالت لنا إنها سلاح المعركة مع إسرائيل، وإذا بالإشادة الدولية تطفو على السطح حول دور الأسد في التعاون الدولي وقبوله كل الشروط.
وفي خضم هذه التناقضات يتساءل المرء حول حقيقة الصراع على الأراضي المحتلة وسياسة الممانعة والمقاومة التي شكلت شعار «حزب الله» وجعلته يدخل كطرف في حربه مع المعارضة السورية. وبما أنهم يتحدثون عن «جنيف2» فلماذا لا نضم الموضوع الفلسطيني ونوسع الحوار حيث سقطت الممانعة السورية وتهاوت شعارات «حزب الله». نحن العرب تقدمنا بمبادرة السلام العربية في بيروت، واليوم تفتح سوريا أبوابها للمفتشين الدوليين ويصمت «حزب الله»، وربما التفاهم الإيراني الأميركي يفتح آفاقاً جديدة لمعادلة جديدة تقود إلى جدار يضاف للجدران العتيقة.
يعتقدون أن الحروب تولد السلام وينسون تاريخ البشرية حين يبرهن على أن الحروب تعمق الخلافات بين الشعوب وتوسع المساحات العازلة بينها. وتنشب الصراعات حتى بين أبناء الدين الواحد وتزداد الكراهية ومن ثم يقولون لنا سنَة التفاهم ستحل علينا في عام 2014 حيث وافق المجلس التنفيذي لمنظمة اليونيسكو على مقترح جيبوتي باعتبارها سنة دولية للتفاهم.
الجدران تكبر بين الثقافات وتتسع المسافات بعدما قالوا إن العولمة كسرت الجدران بين الدول بينما حقيقة الأمر أن الجدران الثقافية هي أشد قسوة، وهي الطريق نحو مزيد من الدمار للشعوب وللأجيال القادمة. ولا نملك سوى الدعاء ورفع الأيدي إلى السماء لعلنا نصحو من غفوتنا ونعي عمق صيحات شباب ميدان التحرير ورائحة الياسمين التونسية.